تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 14 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 14

14 : تفسير الصفحة رقم 14 من القرآن الكريم

** وَلَمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمّا جَآءَهُمْ مّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
يقول تعالى: {ولما جاءهم}, يعني اليهود, {كتاب من عند الله} وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {مصدق لما معهم} يعني من التوراة, وقوله {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفرو} أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم, كما قال محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمرو, عن قتادة الأنصاري, عن أشياخ منهم, قال: فينا والله وفيهم, يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني: {ولما جاءهم كتاب من عند اللهمصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} قالوا: كنا قد علوناهم قهراً دهراً في الجاهلية, ونحن أهل شرك, وهم أهل كتاب, وهم يقولون: إن نبياً سيبعث الاَن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به, يقول الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} , وقال الضحاك, عن ابن عباس في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفرو} قال: يستنصرون, يقولون: نحن نعين محمداً عليهم, وليسوا كذلك بل يكذبون, وقال محمد بن إسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد, أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير, عن ابن عباس: أن يهوداً كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه, فلما بعثه الله من العرب, كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه, فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود, اتقوا الله وأسلموا, فقد كنتم تستفتحون علينا بمحد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته, فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه, ما هو الذي كنا نذكر لكم, فينزل الله في ذلك من قولهم: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} الاَية, وقال العوفي عن ابن عباس {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفرو} يقول: يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب, يعني بذلك أهل الكتاب, فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم, كفروا به وحسدوه, وقال أبو العالية: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب, يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم, كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} وقال قتادة {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفرو} قال: وكانوا يقولون: إنه سيأتي نبي. {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} وقال مجاهد {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قال: هم اليهود} )

** بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىَ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ
قال مجاهد {بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه, وقال السدي {بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول: باعوا به أنفسهم, يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللهعلى محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه وموازرته ونصرته, وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية لـ {أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا, قال ابن إسحاق, عن محمد, عن عكرمة أو سعيد, عن ابن عباس {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده} أي أن الله جعله من غيرهم {فباءوا بغضب على عضب} قال ابن عباس: في الغضب على الغضب, فغضب عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم, وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم (قلت) ومعنى {باءو} استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب, وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى, ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن, وعن عكرمة وقتادة مثله, قال السدي: أما الغضب الأول, فهو حين غضب عليهم في العجل, وأما الغضب الثاني, فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وعن ابن عباس مثله. وقوله تعالى: {وللكافرين عذاب مهين} لما كان كفرهم سببه البغي والحسد, ومنشأ ذلك التكبر, قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والاَخرة, كما قال تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين حقيرين ذليلين راغمين, وقد قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى, حدثنا ابن عجلان, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال:«يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار} .

** وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ اتّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ
يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل الله} على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه {قالوا نؤمن بما أنزل علين} أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك {ويكفرون بما وراءه} يعني بما بعده {وهو الحق مصدقاً لما معهم} أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {الحق مصدقاً لما معهم} منصوباً على الحال, أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل, فالحجة قائمة عليهم بذلك, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} ثم قال تعالى: {فلم تقتلون أنبياء اللهمن قبل إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم, فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها, وأنتم تعلمون صدقهم ؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله, فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والاَراء والتشهي, كما قال تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون} وقال السدي: في هذه الاَية يعيرهم الله تبارك وتعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين} وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم آمنوا بما أنزل الله, قالوا: نؤمن بما أنزل علينا لم تقتلون ـ إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله ـ أنبياء الله يا معشر اليهود وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم, بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم, وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم: نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم {ولقد جاءكم موسى بالبينات} أي بالاَيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله, وأنه لا إله إلا الله, والاَيات البينات هي: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد, وفرق البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الاَيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه, وقوله: من بعده, أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل, كما قال تعالى: {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}, {وأنتم ظالمون} , أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل وانتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى: {ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين} .

** وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مّؤْمِنِينَ
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم, ومخالفتهم للميثاق, وعتوهم وإعراضهم عنه, حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا {قالوا سمعنا وعصين} وقد تقدم تفسير ذلك {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرزاق, عن معمر عن قتادة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم, وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس, وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد, حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني, عن خالد بن محمد الثقفي, عن بلال بن أبي الدرداء, عن أبي الدرداء, عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال «حبك الشيء يعمي ويصم» ورواه أبو داود عن حيوة بن شريح, عن بقية, عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به, وقال السدي: أخذ موسى عليه السلام, العجل فذبحه بالمبرد, ثم ذراه في البحر, ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء, ثم قال لهم موسى, اشربوا منه, فشربوا, فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب, فذلك حين يقول الله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عمارة بن عمير وأبي عبد الرحمن السلمي, عن علي رضي الله عنه, قال: عمد موسى إلى العجل, فوضع عليه المبارد فبرده بها, وهو على شاطىء نهر, فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب, وقال سعيد بن جبير {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: لما أحرق العجل, برد ثم نسف, فحسوا الماء حتى عادت وجوههم كالزعفران, وحكى القرطبي عن كتاب القشيري: أنه ما شرب أحد «منه» ممن عبد العجل إلا جن, ثم قال القرطبي: وهذا شيء غير ما ههنا, لأن المقصود من هذا السياق: أنه ظهر على شفاههم ووجوههم, والمذكور ههنا: أنهم أشربوا في قلوبهم العجل, يعني في حال عبادتهم له, ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤاديفباديه مع الخافي يسيرتغلغل حيث لم يبلغ شرابولا حزن ولم يبلغ سرورأكاد إذ ذكرت العهد منهاأطير لو أن إنساناً يطير

وقوله {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله, ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمر عليكم إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين, المبعوث إلى الناس أجمعين, فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان, وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة: من نقضكم المواثيق, وكفركم بآيات الله, وعبادتكم العجل من دون الله ؟.